صحتك النفسية: كيف نفهمها ونحافظ عليها؟
تعرف الصحة النفسية كحالة من الاستقرار النفسي تمكننا كأفراد من التعامل مع الضغوط في حياتنا، بحيث نعرف قدراتنا وامكانياتنا بما يساعدنا على التعلم والتفاعل والعمل ويمكننا من تحقيق آمالنا ويجعلنا مساهمين في مجتمعاتنا من حولنا.
الصحة النفسية مفهوم عميق ويتطلب نظرة شاملة لأن الاضطراب والمرض النفسي جزء منها فقط، وهو عندما نواجه مشكلة تعترض طريقنا مثلها مثل ما يحدث مع أي عارض صحي آخر، تتطلب ملاحظة وفحوصات وتشخيص وعلاج ودعم حتى نعود لحالة التعافي والاعتدال والاتزان.
يمكن أن نعتبر الصحة النفسية أو نشببها بالمسار أو الطيف، لأن تجربة كل منا مع الصحة النفسية مختلفة وتتشكل بدرجات متفاوتة من الصعوبة والامتحان وآثار مختلفة على حياتنا الصحية والاجتماعية عبر سنوات أعمارنا.
الصحة النفسية جزء أساسي من اكتمال الصحة والعافية واستقرارها، واضطرابها يؤثر بشكل كبير في جودة حياتنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات وبناء العلاقات وتشكيل عالمنا وهو حق انساني أساسي، فكل منا يستحق أن ينعم بحياة وصحة نفسية طيبة.
هناك علاقة قوية متبادلة بين الصحة النفسية والجسدية فمثلاً العوامل البيولوجية أو الجسدية أو الوراثية قد تزيد من احتمالات الإصابة ببعض الاضطرابات أو الأمراض النفسية، والعوامل النفسية مثل مستويات الوعي والإدراك ووجهات النظر والقناعات والأفكار والمعتقدات والمهارات العاطفية تؤثر على صحتنا جسدياً ونفسياً والعوامل الخارجية مثل التعاطي للمخدرات كلها تتداخل وتؤثر على الصحة النفسية. الأمراض الجسدية التي نعاني منها في فترات حياتنا بأنواعها قد يكون لها تأثير نفسي والعكس، مرورنا بضغوط وحالات من الاضطراب النفسي قد تؤثر على صحتنا ومناعتنا وتعرضنا للأمراض الجسدية.
الهرمونات عناصر مهمة جداً في حياتنا، تعمل كمحركات في العمليات الفسيولوجية للجسم، تحمل رسائل للأعضاء والعضلات والجلد والأنسجة الأخرى فمثلاُ هرمونات الأنوثة مثل الاستروجين والبروجسترون والأكسيتوسين والبرولاكتين وهرمونات الغدة الدرقية وهرمونات التستوستيرون والسرتونين الميلاتونين والدوبامين والادرينالين والكورتيزول وغيرها كلها تؤثر في الجسم وتساهم في قدرتنا على التفاعل والتعامل مع ما يصادفنا في حياتنا، وكلها تعمل في مساعدتنا على التجاوب مع المؤثرات وردود أفعالنا فتؤثر على صحتنا بشكل عام وبالتالي لها أثر على صحتنا النفسية، وقد يكون لها دور في حدوث تقلبات مزاجية، لأنها تفرز نتيجة الرسائل التي تصلنا حتى يمكن الجسم من التعامل معها. فمثلاً عندما يواجهنا خطر ندرك ذلك فتفرز هرمونات مثل الادرينالين والكورتيزول فيساعدنا على الهرب أو الاندفاع، وعند حدوث شيء جميل يفرز هرمون السعادة الدوبامين، وفي توقيت معين في الدورة الشهرية أو الحمل والولادة والرضاعة تفرز هرمونات الأنوثة، وارتفاع معدلات هرمون التستوستيرون فقد يسبب سرعة الانفعال والعدوانية والقابلية للعنف. التغير في المزاج شيء طبيعي، هي التقلبات الحادة والتي قد ينتج عنها اضطرابات ومشاكل هي التي يجب علينا مراقبتها وفهمها والتعامل معها لاستعادة والمحافظة على التوازن والاستقرار الجسدي والنفسي equilibrium.
كلنا نعيش في محيط مجتمعي باختلاف أنماطه وطباعه، ونتأثر بمن حولنا ونؤثر عليهم، وعلينا أن نعلم أن هناك أهمية كبيرة للدعم النفسي والعاطفي عندما نمر بضغوط وتحديات في مسار حياتنا. في أساسها حاجة الإنسان أن يشعر بأن هناك من حوله ومن معه مهتم لأمره ويقدر معاناته، يعطف عليه ويحتويه. كلنا كبشر نحتاج لأن نشعر بالحب والحنان والاهتمام. هناك دراسات كثيرة تشير لأثر العلاقات الاجتماعية الإيجابية على الصحة النفسية، لكل الفئات العمرية من صغار لكبار. رسالة أو مكالمة من شخص عزيز أو صديق يسأل عنا، كلمة طيبة في لحظة ضعف، لمسة حنان، مسكة يد، حضن…أحياناً مجرد ما يكون هناك شخص معك يكون هو مثابة الخيط الذي يربط الشخص بالحياة.
كلنا نسمع قصص عمن كانوا يفكرون بالانتحار ويمر بهم شخص صدفة يبتسم وتكون هذه الابتسامة مؤثرة لدرجة أنه يقرر عدم الانتحار وتغير مسار حياته. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “ابتسامتك في وجه أخيك صدقة”. اذكر قصة واحدة مرت بفترة ضغوط دراسة وغربة وصعوبات في الانجاب ومشاكل زوجية وتحكي أنها قررت تحجز لنفسها جلسة عناية بالشعر، وقالت انها مجرد ما جلست وبدأت الأخصائية تحط الزيت وتعمل لها مساج فروة الرأس جاءها شعور قوي وانفجرت بالبكاء، لأنها كانت فعلاً محتاجة أحد يعطف عليها ويخفف عنها، ووقتها أدركت ان الوضع تفاقم وأنها تحتاج دعم حتى تتعامل مع ظروفها.
كذلك تشير الدراسات أن أسلوب الطبيب أو الممارس الصحي له أثر كبير على مخرجات المريض ودرجة تحسن صحته سواء الجسدية أو النفسية لأنها بالنسبة للمريض تشعره بالاهتمام والدعم والعناية والرعاية، التي أحياناً قد نفتقدها، ووجود الدعم من أفراد الأسرة من حول المريض له أثر كبير في قدرته على التعامل مع مثل هذه التحديات ومواجهتها وتخطيها بإذن الله.
نلاحظ مؤخراً أنه أصبح هناك زيادة رغبة وتقبل لفكرة مجموعات الدعم لأنها أثبتت فاعليتها في توفير المساحات للاستماع والمشاركة والشعور بالمجتمعية مع حول الشخص الذي قد يمر بظروف نفسية صعبة، وتحول دون أن يتفاقم الأمر ويتطلب تدخلات علاجية أقوى.
علينا أن نبدأ في التعرف على أنفسنا وما يحركنا داخلياً من أفكار ومعتقدات وعواطف وقناعات، وعلينا أن نبني ثقافة ومعرفة عن مؤشرات الخطورة المتعلقة بالصحة النفسية وملاحظة أنفسنا بعناية والتعامل مع أي منها باهتمام.
من أهم المؤشرات هو شعور الشخص بأنه بدأ يصعب عليه التعامل مع المواقف أو الظروف من حوله، أو عدم القدرة على مواجهة أمر ما، أو الرغبة في التفادي أو الهروب، أو زيادة مفرطة في بعض الممارسات أو التصرفات وأكبر مؤشر هو عندما يصبح الأمر يؤثر على قدرة الإنسان على ممارسة حياته بشكل طبيعي أو كالمعتاد. نعتبرها تغيير ملحوظ عن المعتاد بشكل سلبي. مثلاً شخص بدأ يشعر بازدياد بأنه لم يعد قادر على مواجهة ضغوط العمل أو تأدية المهام العادية ويبدأ في الغضب أو الانفعال على أصغر الأشياء، أو يبدأ بالتغيب والتقصير والإهمال بشكل قد يؤثر على أدائه ويعرضه لفقدان الوظيفة، أو شخص يمر بمرحلة فقد ويصعب عليه التخطي لدرجة واضحة، أو شخص يمر بفترة اكتئاب وتتفاقم بحيث لا يصبح لديه رغبة بالخروج والتواصل مع من حوله بشكل ملحوظ أو رغبة في العزلة، أو مثلاً فقدان الشهية بشكل غير عادي لفترة مطولة، أو كثرة النوم على غير العادة، أو شخص يزيد عنده مستويات القلق فيصبح غير قادر على مواجهة الازدحام أو التقديم في الاجتماعات أو المؤتمرات، أو مثلاً الأداء في الاختبارات أو حتى حضور المحاضرات. وطبعاً من مؤشرات الخطورة الشديدة التي يجب علينا الاهتمام بها وتؤخذ على محمل الجدية التقلبات المزاجية الحادة ـ والتي عادة يلاحظها الأشخاص من حوله، او سماع الأصوات أو التعبير عن بعض الهلاوس أو الضلالات المستغربة، التهديد أو محاولة إيذاء النفس أو الغير، التعبير عن التفكير غير المعتاد في الموت أو الرغبة في الموت، فقدان الأمل في الحياة والفائدة منها، التعبير عن الشعور بعدم الأهمية وما إلى ذلك.
جميع ما ذكر مؤشرات يجب علينا جميعاً عدم اهمالها أو تجاهلها، والاستماع للشخص الذي يحاول التعبير عنها وعدم اسكاته، السماح له بالفضفضة والتأكد من أنه وأن من حوله في أمان أولاً، والبحث عن أفضل طريقة لتقديم الدعم له، ليس مجرد الوعظ والنصح، لكن فعلاً البحث والسؤال عن أفضل طريقة تناسب ما يواجهه وقتها، من استشارة مختص، حتى لو هاتفياً عن مثلاً العبارات السليمة التي يمكن استخدامها، أو اقتراح التواصل مع شخص مختص مناسب بشكل ملائم وحساس، أو في الحالات الشديدة قد يتطلب التدخل من قبل الإسعاف أو الطوارئ أو حتى الجهات الأمنية، وفي حال تطلب ذلك، فلا بأس وعلينا أن تثق بأن الهدف من ذلك هو حرصنا على الصحة والسلامة بالدرجة الأولى فكل حياة غالية والمعاناة في هذه الحالات حقيقية وقد تكون مؤلمة، وتتطلب الكثير من العناية والرفق والاهتمام، والكوادر الصحية مهيئة ومتمنكة وتقدم أفضل ما لجيها حتى تساعد وتعين الشخص للوصول لبر الأمان، ولكن لا ننسى أن الهدف من التحدث والتوعية هو مساعدة بعضنا البعض في تفادي الوصول لهذه المراحل المتقدمة والمتفاقمة من الاضطراب النفسي ورفع قدرتنا في التعامل مع أي مؤشرات أو أعراض فور ظهورها بطريقة سليمة وحنونة وآمنة، وتقليل المضاعفات والآثار على حياتنا.
في حال رغبتك بالاستفسار عن أي من النقاط المذكورة بإمكانك طلب استشارة عبر النموذج في الصفحة الرئيسية ويشرفني دعمك للوصول للعافية والاستقرار النفسي بإذن الله.
استجابات